٦١

(بطاقة عالم)

العلامة السيد صدر الدين الصدر العاملي

عالم جليل من المجتهدين ومن علماء الأخلاق، ولد في سامراء عندما ذهب إليها المرجع المجدّد السيد محمد حسن الشيرازي، وكان والده السيد إسماعيل الصدر أحد المقربين والمستشارين للمرجع الشيرازي.

نشأ السيد صدر الدين في كنف والده السيد إسماعيل، فدرس عليه وعلى بعض الفضلاء المقدمات والسطوح في الفقه والأصول، ثم عاد إلى النجف الأشرف، ودرس على الأساطين، منهم: الشيخ الخراساني (صاحب الكفاية)، والشيخ محمد طه نجف، والشيخ رضا الهمداني، والشيخ ضياء الدين العراقي.

وعن صفاته يقول السيد عبد الحسين شرف الدين: «... مضافاً للعلم الغزير، كان يتمتع بمواصفات مهمّة وأساسية، فكان واضح الزهد، وكان عازفاً عن مغريات المظاهر، وكان يهرب من الأنانية والإستعلاء».

تشرّف بزيارة الإمام الرضا Q سنة ١٣٣١هـ، ثم عاد إلى العراق سنة ١٣٣٧هـ، ثم رجع إلى خراسان بعد سنة أي سنة ١٣٣٨هـ، في (قم) كان المقدّس الشيخ عبد الكريم اليزدي، وكان يشير  { إلى الطلبة أنّ الخليفة من بعده هو السيد صدر الدين الصدر، والذي لم يكن ــ رحمه الله ــ راغباً بالذهاب إلى (قم)، ولكن الإلحاح عليه من العلماء، مضافاً للإستخارة، اضطرّه لتلبية الدعوة، فأصبح مدرّساً ومرشداً، ونقل لي آية الله العظمي السيد موسى الزنجاني أن السيد صدر الدين عمل على أن يأتي إلى قم السيد حسين البروجردي، ليكون المرجع العام، بعد رفض السيد أبو الحسن الأصفهاني أن تستبقي حوزة (قم) شيئاً من الحقوق الشرعية، حيث كان يرى الأولية لحوزة النجف الأشرف، ولكن بعد مجيء السيد البروجردي إلى (قم)، صارت الأموال الشرعية تصرف على الحوزة العلمية، حيث كان السيد صدر الدين يولي أهمية للحوزة العلمية في (قم) المقدسة، وكأنه كان ينظر بنور الله.

ترك العديد من الآثار العلمية، وكان عضواً أساسياً في دار التقريب في القاهرة.

توفي في ٩ ربيع الثاني سنة ١٣٥٥هـ، ودفن إلى جوار السيدة فاطمة المعصومة O.

عدد خاص بمناسبة الإحتفال التكريمي ٢٤/١/٢٠١٧م

لسماحة العلامة المجتهد السيد محمد حسن فضل الله (طاب ثراه)

الولادة ١٣١٠هـ

الوفاة ١٣٩٢هـ - الموافق ٣ تشرين الثاني ١٩٧٢م

السنة السادسة ــ العدد الواحد والستون ــ كانون الثاني ٢٠١٧ م ــ ربيع الثاني ١٤٣٨هـ.

شخصية العدد

العلامة السيد محمد حسن فضل الله الحسني العيناثي العاملي

العلامة السيد محمد حسن فضل الله الحسني العيناثي العاملي، من علماء القرن الرابع عشر هـجري وأحد أعلامه الذين حازوا على درجة الإجتهاد، فكان العالِمَ من دون كللٍ ولا ملل، حمل لواء التبليغ الديني والإصلاح والمطالبة بحقوق الطائفة الكريمة.

ولد في قرية (عيناثا) من جبل عامل سنة ١٣١٠هـ، من عائلة علمية مشهود لها بالفضل وصحة النسب. و(عيناثا) منارة من منارات جبل عامل العلمية والأدبية، التي خرّجت العشرات من العلماء والأدباء منذ مئات السنين، وكانت مقصداً للعلماء والطلاب من خارج حدود جبل عامل الجغرافية؛ ففي أواسط القرن التاسع هجري سكنها وتوفي فيها العلامة الشيخ ناصر الدين البويهي.

أمّا نسبه الشريف: فهو السيد محمد حسن بن السيد علي بن السيد هادي بن السيد فخر الدين بن علي بن يوسف الثاني بن يوسف الأول بن محمد بن فضل الله الحسني العيناثي العاملي.

أصل العائلة من مكة المكرمة، وهم سادة حسنيون كما ذهب إلى ذلك كل من عرفهم أو ترجم سيرهم، ومنهم: العلامة السيد محسن الأمين، عندما ذهب إلى أنهم سادة حسنيون بلا شك ولا شبهة.

جدّهم الأعلى الشريف حسن، وهو الذي انتقل من مكة المكرمة إلى جبل عامل بداعي العلاج، وكان على صداقة مع علماء من (آل خاتون)، تعرّف إليهم عندما كانوا يذهبون للحج والعمرة، ولم يكن الحج في ذلك الوقت على طريقة اليوم، أياماً معدودات، بل كان يمتد شهوراً، وكانوا يتعارفون مع علماء وأعيان مكة المكرمة.

والعلماء الذين قدموا إلى جبل عامل، لم يكونوا بدافع واحد، فهناك من قصد جبل عامل بداعي الدرس والتحصيل، كالشيخ ناصر بن إبراهيم البويهي، وهناك من جاء ربّما لاجئاً من الأوضاع المتردية، كالشيخ نجيب الدين أبو القاسم بن حسين بن العود (الأسدي)، فكان يسكن حلب في عهد النقيب عز الدين مرتضى، وأساؤوا إليه نتيجة التعصب المذهبي، وسكن قرية (جزين) ومات فيها سنة ٦٧٩ هـ، فرثاه العلامة الشيخ جمال الدين إبراهيم بن الحسام أبي الغيث العاملي، بقصيدة مطلعها:

عَرج بجزين يا مُستبعدَ النجفِ

ففضلُ من حلَّها يا صَاحِ غَيرُ خَفي

وهناك من جاء إلى جبل عامل بطلب من أهاليه، كالسيد أحمد الجدّ الأعلى للسيد محسن الأمين، والشيخ إبراهيم البلاغي، والشيخ حبيب البغدادي وغيرهم، وقسم قَدم إلى جبل عامل بداعي العلاج ومنهم: الشريف حسن الجدّ الأعلى لآل فضل الله، كان عالماً أديباً شاعراً، وعلى ما يظهر فإنه أُصيب بمرض صدري، ووصفوا له السكن في جبل عامل لأنّ مناخه ينفع في معالجة الأمراض الصدرية، ولذا اختياره لـ (عيناثا) كان لهذا السبب، مضافاً لوجود أصدقاء له من علماء (آل خاتون). وبعد مرور ثلاث سنوات على وجود العائلة في (عيناثا)، إرتحل الشريف حسن عن هذه الدنيا، ودفن في (عيناثا)، وبقيت عائلته، فخرج منها علماء وأدباء، ولا زالت هذه العائلة حاضرة بعلمائها إلى يومنا هذا.

من ذريّة الشريف حسن، السيد محمد فضل الله، وأخوه السيد فخر الدين، وإليهما إنتهت الرئاسة العلمية في عهد الأمير ناصيف النصار، وكان جبل عامل في تلك المرحلة يعيش المرحلة الذهبية، من الحضور العلمي والنمو الإقتصادي والإستقرار الأمني.

وامتدحهم أيضاً السيد هاشم معروف الحسني فقال: «السيد محمد حسن فضل الله من عائلة لها شرف الإنتساب إلى الإمام الحسن Q، وهي في الوقت ذاته لم تخلُ في عصر من العصور من أعلام، لهم في دُنيا الإسلام ذِكْرٌ محمودٌ وفضل يشهد به القريب والبعيد، وآثار في مختلف المجالات الإسلامية».

نشأ السيد فضل الله في قرية (عيناثا) في كنف أبوين من أهل الإيمان والشرف، فوالده السيد علي من هذه السلالة الطاهرة، وأمّه كريمة العلامة الشيخ مهدي شمس الدين، الذي كان له دور مهم في إعادة الحياة العلمية إلى جبل عامل بعد هلاك الجزّار سنة ١٨٠٤م. وكما ينقل الطهراني: «فإنّ الشيخ مهدي شمس الدين كان من أهم الأساتذة في جبل عامل، فالشيخ موسى أمين شرارة درس عليه القوانين، وعائلة شمس الدين يعود نسبها إلى الإمام الشهيد الأول الشيخ محمد بن مكي الجزيني العاملي مؤسّس النهضة العلمية في جبل عامل أواسط القرن الثامن هـجري، وكان لأبنائه وتلاميذه فضل في استمرار النهضة العلمية».

دراسته في جبل عامل:

درس السيد محمد حسن على السيد نجيب فضل الله الذي كان أستاذاً في مدرسة الشيخ موسى أمين شرارة في بنت جبيل سنة ١٢٩٨هـ، وبعد وفاة الشيخ موسى سنة ١٣٠٤هـ، تفرّق الطلاب فقرّر السيد نجيب الذهاب إلى النجف سنة ١٣٠٦هـ لاستكمال تحصيله العلمي، وبعد عودته من النجف سكن (عيناثا) وكان أحد أعلامها.

كما درس السيد فضل الله على والد زوجته السيد مصطفى نور الدين في قرية (جويا) وانتقل إلى مجدل سلم ليدرس على جده الشيخ مهدي شمس الدين، الذي شيّد فيها مدرسة دينية ضمّت العديد من الطلاب، على أثر تركه للمدرسة الدينية في (جباع) التي أسسها العلامة الشيخ عبد الله نعمة.

غادر جبل عامل إلى النجف الأشرف سنة ١٣٣٨هـ لاستكمال التحصيل العلمي على أساطين تلك المرحلة، فدرس على الشيخ أحمد كاشف الغطاء وعلى الميرزا الشيخ محمد حسين النائيني، الذي كان من كبار شيوخ الفقه وأساتذة الأصول ومن أعاظم علماء الشيعة وأكابر المحقّقين المتوفى في النجف سنة ١٣٥٥هـ، كما درس على المرجع الديني السيد أبو الحسن الأصفهاني، الذي كان فقيهاً وأصولياً وعالماً كبيراً، عُرف بشخصيته الفذة وعبقريتة النادرة وقد توفي سنة ١٣٦٥هـ، كما درس على المحقّق الشيخ ضياء الدين العراقي الذي كان من كبار المجتهدين والمحقّقين ومن أبرز علماء عصره وتوفي سنة ١٣٦١هـ، كما درس على غيرهم من الفطاحل وكتب تقريراتهم في الأصول والفقه، وهذه لها دلالة واضحة على مدى الأهمية والجدية والتحصيل، وعلى المكانة العلمية التي وصل إليها وهي سيرة كبار العلماء الذين بلغوا أعلى المراتب في الفقه والأصول.

عاد السيد محمد حسن من النجف الأشرف سنة ١٣٥١هـ بعد خمس عشر سنة قضاها بالتحصيل وتربية النفس، حاملاً معه إجازات بالإجتهاد من أساتذته العظام.

في لبنان: سكن في برج البراجنة من بيروت، حيث كان يتطلع إلى ضرورة أن تأخذ الطائفة الشيعية الكريمة دورها، وهذا يلزمه بأن يكون سكنه في بيروت حيث العاصمة والقرب من مركز القرار، فوقع الإختيار على (برج البراجنة) لما تُمثّل من تجمع كبير للمسلمين الشيعة في تلك المرحلة، فكانت قرية كبيرة، لكن وجود السيد فضل الله حوّلها إلى مركز مهمّ وأساسي ومركز قرار للطائفة الشيعية الكريمة، كما حوّل الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين (صور) إلى مدينة ومركز ثقل تتحدّث باسم جبل عامل، بعدما ترك قرية (شحور) ليواجه تحديات نهاية الحكم العثماني وقيام الإنتداب الفرنسي.

أمّا الخطوات العملية التي قام بها السيد فضل الله رحمه الله في بيروت فكانت:

الخطوة الأولى: قام بوظيفته الشرعية من إمامة الناس ورعاية شؤونهم في كل ما يتعلّق بهم في الأمور العبادية ومختصّاتها؛ من إصلاح ذات البين وحلّ الخصومات وإحياء المناسبات، مضافاً لتعليمهم الأحكام الشرعية، وكان شأنه في هذا شأن بقية علماء الدين الذين يأتون من النجف ويسكنون قراهم.

الخطوة الثانية: لم يكتفِ السيد فضل الله بما قام به من وظيفة شرعية بحدود برج البراجنة فقط وإمامة الناس فيها، وإنما كان يتطلّع إلى تحويل هذه المنطقة إلى مركز ذات طابع شيعي ومجمع شعبي كبير يقف خلفه ويستند عليه في المواقف التي ينوي اتخاذها لمصلحة الطائفة الشيعية الكريمة، حيث يحتاج إلى وجود أرضية صلبة للوقوف عليها.

الخطوة الثالثة: البدء بالإطلالة العامة وتحضير المناخ الذي يساهم في تنفيذ القرارات الكبيرة التي تجري من خلال المشاورات مع إخوانه العلماء في التحضير لها، فكانت (صلاة الجمعة) بما تحمل من بعدٍ عبادي سياسي، وفرض على الدولة أن تنقلها مباشرة عبر إذاعة بيروت الرسمية ولأكثر من مرة، وكان لهذه الصلاة ولهذا النقل المباشر إعتراف من قبل المسؤولين بحجم الثقل الذي يمثّله سماحة السيد محمد حسن فضل الله وأنه يرتكز إلى قاعدة شعبية كبيرة إلى جانب وقوف عشرات العلماء الكبار معه. وهذا ظهر تأثيره عندما علم أنّ الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين قد قرر مغادرة (صور) نهائياً على أثر ما تعرّض له من إهانة ومؤامرة إستهدفت شخصه الكريم ومكانته الاجتماعية من إحدى الجهات المؤثرة في (صور)، ولا يمكن لأي عالم دين أن يبقى في منطقة مهدور الكرامة وفاقد التأثير للحظةٍ واحدة حتى لو عرضوا عليه الدنيا، فما كان من السيد محمد حسن فضل الله إلّا أن ذهب إلى (الجنوب) مستنفراً العلماء والوجهاء لتأييد السيد شرف الدين ووضع حد للمناهضين له كي يفهموا أنّ الإمام شرف الدين ليس لوحده ولا يمكن لأحد أن ينال من مقامه وكرامته ما دام في هذه الطائفة الكريمة أهل عز وشرف، فجميع طاقات هذه الطائفة تقف خلفه.

الخطوة الرابعة: بعد كل هذا التحضير كان لا بُدّ من الشروع بإطلاق المواقف الكبيرة، حيث توقف السيد فضل الله ومعه إخوانه العلماء عند تقصير الدولة اللبنانية وعدم اهتمامها بحقوق هذه الطائفة الكريمة، في الوقت الذي كان إخواننا من الطائفة السنية الكريمة ينعمون بمراكز تتحدث باسمهم وتحفظ أوقافهم، بينما طائفتنا لا تُعطى أي اهتمام، وكأنّها من الدرجة الرابعة ومجموعة دراويش لا تعنيهم الحياة الكريمة. وفي الوقت الذي كانت فيه الطائفة السنيّة الكريمة - أيضاً - هي المتحدث الوحيد باسم المسلمين جميعاً في لبنان على مختلف انتماءاتهم الطائفية والسياسية. وهذا الوضع لم يعد مقبولاً عند العلماء والأعيان، فكان لا بد من المواجهة ومطالبة الدولة بأحد أمرين: إما المشاركة الحقيقية في هذه المؤسسات من خلال تعديل المرسوم ١٨ وتصبح الطائفة الشيعية مشاركة بالمجلس الإسلامي وبدار الفتوى وبالأوقاف، أو الذهاب إلى تأسيس مجلس آخر يخصّ المسلمين الشيعة ودار فتوى لهم ترعى شؤونهم وتنظم الأوقاف الشيعية.

ولهذه الغاية، إجتمع العلماء في دار السيد فضل الله في (برج البراجنة) للتشاور وأخذ القرارات، ثم بدأت المراسلات بينه وبين رئيس الحكومة آنذاك (صائب سلام)، وجاء الجواب من الرئيس صائب سلام رداً على كلام سابق من سماحة السيد فضل الله يطالب رئيس الحكومة باتخاذ الموقف المناسب.

وهنا سنورد نص الرسالة التي أرسلها رئيس الحكومة:

صاحب السماحة العلامة الجليل السيد محمد حسن فضل الله.. بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

إنّ ما أعهده في سماحتكم من غيرة دينية وشعور نحو القضايا الإسلامية كبيرها وصغيرها، وما عرفته في شخصكم عن كثب ما تتحلون به، من دين صحيح، وخلق قويم وعزم دائب لخدمة الإسلام والمسلمين، مضافاً إلى هذا كله ما علمته منذ أيام عن الإجتماع الذي عقده علماء الشيعة الأجلاء برئاستكم، من أجل إنشاء مجلس شرعي إسلامي شيعي؛ ووضع قانون له على غرار المرسوم ١٨ الذي وضع في الماضي لإنشاء مجلس شرعي إسلامي سني.

وعطفاً على الأحاديث العديدة التي كانت مع سماحتكم ومع العدد الكبير من أصدقائي من علماء الشيعة، الذين أكنّ لهم اصفى مودة وأحتفظ لهم بكامل الإحترام و التقدير. ولمّا كان موضوع إنشاء المجلس الشرعي الإسلامي الشيعي الأعلى قد اقترح من قبل علماء الشيعة الأجلاء توخياً لأهداف سامية إسلامية، في نفس الوقت والزمان الذي توالت فيه إجتماعات للسنة فانعقد فيها الإجتماع الأخير وقررت فيها تعديل المرسوم ١٨ بما يحقق مصلحة المسلمين العليا.

فقد رأيت أن أغتنم هذه الفرصة السانحة، فأتوجه إلى سماحتكم، وإخوانكم العلماء الأجلاء، وقلبي مفعمٌ بالإيمان أنني سألقى عندكم ما لقيته من تجاوب صادقٍ في أحاديثنا السابقة بنفس النداء الذي توجهت به إلى إخواني من أهل السنة في اجتماعهم التاريخي المنعقد أمس بدار الفتوى.

ويسرّني أن أبادر فأعلم سماحتكم أنّ هذا النداء الإسلامي الذي صدر في أعماق الضمير وعلى ضوء الخبرة والتفكير قد لاقى في اجتماع الأمس آذاناً مصغيةً، وقلوباً واعيةً، فكان له تأييد اجتماعي معزّز بقلوب عامرة بالإيمان عند المجتمعين.

وما ندائي كما تعلمون، والفرصة قد عرضت، والمناسبة مؤاتية فهو تحديد ما طالبت به سماحتكم من قبل، كما طالبت به كل مسلم يغار على المسلمين ومصلحة المسلمين العليا بأن يتوحد الجهد فلا يتفرق ويتضامن العاملون المخلصون، فلا يتباعدوا، ونسير على هدى رسالة الإسلام، رسالة التوحيد لنصل برعاية أهل الفضل والفضيلة من أمثالكم إلى تلبية رغبات عامة المسلمين، وخاصة الناشئة العليا في هذا الوطن الذي نعيش تحت سمائه، فيكون المسلمون - الذين يؤلفون نصف كيانه وإمكاناته - متضامنين متحدين مكفولةٌ مصالحهم موقورةٌ كرامتهم. فالناشئة الإسلامية في هذا العصر، ومعهم كل مسلمٍ واعٍ يحرص على إسلامه، لم تعد تفهم يا سماحة السيد الجليل للتفرقة من معنى بين أهل المذاهب عند المسلمين.

وإذا كان من خلاف في المذاهب فهو، في نظر الناشئة الإسلامية، والواعين من المسلمين، ليس بين الشيعة والسنّة فقط بل هو بين سائر المذاهب الإسلامية من شافعية وحنفية ومالكية وحنبلية وهذا في نظرهم يجب أن ينحصر في النطاق الفقهي فلا يتعداه إلى جمهور المسلمين فيصبح سبباً لتقسيمه سياسياً واجتماعياً.

بل إنّ النشأة الإسلامية الحديثة والواعين من المسلمين يرون في بعض هذه الخلافات الخير كل الخير، إذ يجدون فيها سبباً لتنافس العلماء الأجلاء في تَفَهُّمِ معاني الشرع الشريف لما يتولد من احتكاكات الأفكار وتبادل الأراء .

إنّ الناشئة الإجتماعية الحديثة وخصوصاً في هذا البلد الذي نعيش فيه لم تعد ترى سبباً أن يكون المذهب سبباً في تفرقة المسلمين بل إنها تصر ملحة على أنّ المسلم أياً كان مذهبه، وتأبى أن ترى فرقاً بين سني وشيعي.

تجاه هذا كله أصبح على قادة الرأي في كافة الميادين وعلى السادة العلماء بصورة خاصة، واجب ديني ومقتضى دنيوي بأن يعالجوا هذا بحكمة ورويّة وهمّة ونشاط فالزمن يمضي مسرعاً ولم يبق من مجال للتباطؤ أو عذر للتخلف.

هذا ما يجول بخاطري ويعتلج أعماق ضميري منذ زمن بعيد كما تعلمون وهذا ما افضيت لكم به مراراً يشجعني على مكاشفتكم به اليوم ما أعرفه من تجاوب عندكم أكيد كما يؤملني بإمكان معالجته معالجةً فعالةً تصل به إلى غاياته السامية، ظرف جميل عرض لنا وربما أراده المولى قصداً ليدفعنا إلى اغتنامه.

وأنا أعلم كما تعلمون أيها السيد الجليل أنّ هناك مصاعب جمة وأنّ هناك عقبات كأداء في سبيل تحقيق ما نصبو وتصبون إليه، ولكن أصحاب الإيمان لم يَتخلوا يوماً عن واجب ولم يتقاعسوا عن تضحية عندما يكون الهدف هدفاً سامياً وتكون مصلحة المسلمين العليا هي المطلب والغاية وأؤكد لكم أنني مستعد دائما لأضع جميع ما أملك من إمكانات ومن جهد ومن خبرةٍ في هذا السبيل مستلهماً آية الكتاب الكريم التي تهيب بالمسلمين ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ.

وفقنا الله وإياكم لما فيه خير المسلمين وسدد الله خطاكم وخطانا في الطريق المستقيم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

صائب سلام

بيروت في ٤ شعبان ١٣٨٦

١٧ /١١/١٩٦٦

وقد أجابه السيد محمد حسن فضل الله بكتاب هذا نصه:

بسم الله الرحمن الرحيم وله الحمد:

السلام على دولة الرئيس صائب بك سلام ورحمة الله وبركاته، إنه اطلعتُ على كتابكم الكريم بإمعان واهتمام، وما زادني شيئاً عما أعهده فيكم من الغيرة على الإسلام والمسلمين وحب الخير للناس أجمعين.

وقد أطلعت العديد من السادة العلماء على كتابكم فارتاحوا له إذ وجدوه معبراً عن رغبة عامة لديهم، قديمة ومستمرة، في العمل يداً واحدة لما فيه خير المسلمين جميعاً. وإن كان هناك ما يشعر بالإنفراد والإستقلال فهو ولا شك نتاج ظروف خارجة عن إرادتنا وإرادتكم ونسأل الله سبحانة أن تكون قد انقضت إلى الأبد.

وأحسب أنكم تعرفون حق المعرفة، أن التجارب المريرة التي مررنا بها عند تأمين العدالة والمساواة في الحقوق والمناصب هي التي سببت هذا الوضع الذي نقاسي منه نحن وأنتم.

والآن بعد أن قرّر علماء الطائفة الشيعية ما أعلنوه وقرأتموه، يتوقف هذا العمل المجدي على أن يرجع إخواننا السنّة عن ما كانوا قد استقلوا به من قبل ويرجع علماء الشيعة عما قرروه أخيراً تمهيداً للإشتراك معاً على أساس العدالة والمساواة، وفي تقديري أن لو تم ذلك لحققنا النصر على أوسع نطاق وفي كل مجال.

أما إذا تمسكت الطائفة السنية الكريمة بموقفها السابق فستضطر الطائفة الشيعية بدورها إلى التمسك بقرار العلماء الأخير.

هذه هي الحقيقة، رسمناها لكم بصدقٍ وإخلاصٍ لتسيروا على ضوئها. ونحن معكم ومع كل مخلص، وقد توخينا الإيجاز لأنكم غير بعيدين عنها ولا هي بجديد علكيم كما يدل كتابكم الصريح المخلص.

وهو سبحانه المسؤول أن يوفقنا جميعاً لخدمة الإسلام والمسلمين، والله يحفظكم.

محمد حسن فضل الله برج البراجنة

في ١٠ شعبان المبارك ١٣٨٦ هـ

من هنا، علينا أن نعرف أنّ علماء تلك المرحلة لم يكونوا مجرد وعاظ مساجد وأئمة صلاة على الأموات، بل كانوا مضافاً لهذا الواجب يعملون بالليل والنهار ويعرّضون حياتهم للخطر في سبيل الدفاع عن كرامة الناس والمطالبة بحقوقهم المشروعة، وحتى ولو لم ينصفهم الساسة فسينصفهم التاريخ ويتحدث عن مناقبهم، وهذه مسؤوليتنا الشرعية.

أقوال العلماء فيه:

ممّا جاء في معجم رجال الفكر والأدب في النجف الأشرف: «عالم جليل وشاعر نحرير مُتتبع، ومن أساتذة الفقه والأصول والتفسير والحديث، مع إطلاعات واسعة في الأدب واللغة والنحو».

وممّا قاله في حقه أيضا العلامة السيد هاشم معروف الحسني: «بطل من أبطال العلم وفارس من فرسانه، وهب حياته لله وللناس ولم يثقله عبء الرسالة الذي ألقي عليه في هذه الدنيا المقبلة على الباطل، فكان لا يريد إلا وجه الله ولا يرجو إلا ثوابه، ثمانون عاماً أو تزيد كان فيها سيدنا سديد الرأي راجح العقل زكي النفس سخي اليد لا يخدع عن الصواب، هيباً للحق جريئاً فيه، كانت حياته تتسم في الشدة في الدين والقوة في الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواضع للعلماء وأهل الدين، لم يمنعه حبه لمن يحب من إقامة العدل، ولا بغضه لأحد من إنصافه، ظلّ طيلة حياته مرجعاً كبيراً من مراجع الدين وفيّاً لرسالته حريصاً على أدائها، عاد من النجف الأشرف بعدما درس على أساطينها مزوداً بالشهادات التي تنص على اجتهاده المطلق».

ومما قاله آغا بزرك الطهراني بحقه: «عالم جليل درس في النجف على أساطينها كالشيخ أحمد كاشف الغطاء والسيد أبو الحسن الأصفهاني وكتب تقريراتهم في الفقه والأصول وعاد حاملاً إجازات بالاجتهاد من أساتذته الميرزا النائيني والشيخ محمد رضا آل ياسين والشيخ كاشف الغطاء، فسكن في بيروت وقام بوظيفته الشرعية وعمل على نشر الأحكام وأقام الجمعة والجماعة».

من هنا نلحظ أنّ هناك إجماعاً على مكانة هذا السيد الجليل العلمية والأدبية والقيادية والأخلاقية، وهذا ما ميّز السيد فضل الله عن قسم من العلماء الذين حازوا على شهادات كبيرة واقتصروا في أعمالهم على الوعظ والإرشاد وربما التدريس والتصنيف، بينما نجد فريقاً من العلماء الأجلاء لم يقتصروا في أعمالهم على حدود التبليغ الديني وإنما انبروا لمواجهة التحديات السياسية والفكرية التي كانت تحيط بالمنطقة، ومن هذا الفريق كان السيد محمد حسن فضل الله، لكن المشكلة مع تاريخنا أنّه يتجاهل الكثير من الشخصيات التي قدّمت وضحّت بسبب الظروف السياسية، وهناك من عمل على تهميش تلك الأدوار، وهذا ما ظهر لنا من خلال توثيقنا لهذه الشخصية الفذة.

ترك السيد محمد حسن فضل الله بعض المصنّفات وديوان شعر، ولكن بسبب الحروب التي مرّت على لبنان تلفت أكثر هذه الآثار.

وينقل نجله السيد علي ــ رحمه الله ــ أنّه عثر بعد الإحتراق على بعض المصنّفات في الفقه والأصول ومكارم الأخلاق وبعض المقاطع من الشعر، تُدلّل على أدبه وشعره، ومنها قصيدة في الوعظ والإرشاد:

تَزَوَّدْ مَا اسْتَطَعْتَ لِدَارِ خُلْدٍ

فَخَيْرُ الزَّادِ زَادُ الْمُتَّقِينَا

وَلا يَغْرُرْكَ فِي الدُّنْيَا ثَرَاءٌ

هُنَاكَ تَرَى أُجُورَ الْعَامِلِينَا

تَبَصَّرْ يَا هَدَاكَ اللهُ إِنَّا نَسِير

عَلَى طَرِيقِ السَّابِقِينَا

فَإِنَّ الْمَوْتَ غَايَةُ كُلِّ حَيٍ

وَبَطْنُ الأَرْضِ مَثْوَى الْعَالَمِينَا

أَلَمْ تَعْلَمْ بِأَنَّ اللاء كَانُوا

مُلُوكًا فِي الْقُرُونِ الْغَابِرِينَا

أَضَاعُوا الْعُمْرَ فِي لَهْوٍ وَظُلْمٍ

وَحَادُوا عَنْ طَرِيقِ الْمُتَّقِينَا

وَلَمْ يَجِدُوا لِدَفْعِ الْمَوْتِ عَنْهُم

سَبِيلاً فَاسْتَكَانُوا صَاغِرِينَا

نَعِيمُ الْخُلْدِ لا يَفْنَى فَسَارِعْ

لأَعْمَالِ الْعِبَادِ الصَّالِحِينَا

بعضه أحواله: كان السيد محمد حسن فضل الله مقداماً وشجاعاً ومتحملاً للمسؤولية مُنذ شبابه. فكانت له علاقة وثيقة مع قائد ثورة العشرين ضد الإنكليز السيد محمد سعيد الحبوبي، ونزل إلى الميدان مع السيد الحبوبي وبقي ملازماً له حتى استشهاد السيد الحبوبي.

ومن أحواله، أنّ الإمام السيد موسى الصدر كان يُكثر التردّد على السيد محمد حسن فضل الله في منزله ببرج البراجنة، وهذا التردّد له دلالته في تلك المرحلة، وعلاقة الإمام الصدر بعلماء تلك المرحلة كانت ممتازة، فكانوا السند الحقيقي وأصحاب الأفكار النيّرة.

مصنفاته وآثاره:

رغم الإنصهار الكبير بالعمل التبليغي من وعظٍ وإرشادٍ وصلاة جماعة وإحياء المناسبات مضافاً لإصلاح ذات البين، التي هي عمدة العلاقة بين عالم الدين والناس، ورجوع الناس بكلّ شؤونهم إلى علمائهم هو دليل عافية، ويكشف عن التدين العميق والطيبة، وعن نظرتهم السيئة إلى الحكام، على أنهم حكام جور لا يجوز الترافع إليهم، والمال المأخوذ بحكمهم حرام، إلّا إذا توقف استنقاذ الحق عليهم.

مع كل هذه الإنشغالات، كان علماء جبل عامل، يعيشون هماً آخر، وهو الإبقاء على جبل عامل حاضرة علمية، لما تُمثل هذه البقعة من مكانة متقدمة على صعيد نشر العلوم والدفاع عن الإسلام والمسلمين، ولهذا كما عمل علماء هذا الجبل بالتبليغ والإصلاح، كذلك عملوا بالتدريس والتصنيف بما أمكن، وبحسب ظرف كلّ واحد منهم، فإذا تعسّر عليه التدريس لضيق الوقت ولعدم إمكانية أن يتفرّغ ويلتزم بوقت محدد، كان يعوّض عن ذلك بالتصنيف.

ولم يكن هَمَّهم التصنيف كيفما اتفق، وإنما كانوا يراعون مقتضى الحال، ويعتمدون على الوسائل المتاحة، في تلك المرحلة لم تكن هناك وسائل تنقل الأخبار والأفكار كما هي اليوم بمتناول الجميع، فكانت الوسيلة الوحيدة هي (الكتاب)، وكان عزيزاً، ولهذا عندما ننقل تلك الجهود إليكم، علينا أن نقيس قيمتها في تلك المرحلة، وعلينا أن نلتفت دائماً إلى أن أي تطور لا يتم إلا من خلال من أسّس له، (فالسابقون السابقون أولئك المقربون)(1)، فلا يجوز أن نساوي بين اليوم والأمس، بل يجب أن نُرجع كل ما وصلنا إليه، إلى تلك الجهود والأفكار التي بُذلت في تلك المراحل الصعبة والشاقة.

وفيما يخص الآثار العلمية والفكرية والإجتماعية التي تركها العلامة السيد محمد حسن فضل الله، وإن كان بعضها لا يزال في إطار المخطوط فيما يتعلق ببعض الكتب الأصولية والفقهية، لكن نلاحظ أنه لم يهتم فقط بالمسائل المتعلقة بعلماء الدين وبالحوزات العلمية من الفقه والأصول، بل تعداه ليكتب بعلم الأخلاق من دون إيراد تعقيدات تحتاج إلى مفسر للمطالب، ومبيّن لها، بل أوردها على طبيعتها لتكون بمتناول الجميع، كي يفهمها كلٌّ على طريقته، فالعالم والإنسان العادي يمكن لأي منهما أن يرجع إلى ما كتبه في عالم الأخلاق ويستفيد منه، وفي الحقيقة فإن كتاب (روض الصالحين) الذي جاء في ٣٠٠ صفحة، جمع فيه ــ رحمه الله ــ العناوين التي يحتاجها المؤمن في حياته لتربية نفسه وللحصول على مراتب صفاء النفس وتخليتها من الشوائب.

ففي بداية الكتاب، أراد أن يسلط الضوء على علاقة المؤمنين مع بعضهم البعض، التي تحتاج إلى كثير من العناوين والمعالجة، وخصوصاً أنها مرتبطة بما حاز عليه هذا الفرد من تزكية النفس وتربيتها، فإذا كانت الشهوات الحيوانية لا زالت تتحكم في داخل نفسه، فلا يمكن أن يعيش المودة تجاه إخوانه من المؤمنين، وهذا يظهر بالحسد والكيد والتنافس السلبي، وأثاره الخارجية هي : الغيبة والنميمة والكذب والتملق وسوء الظن، كل هذه الصفات هي كاشفة عن وجود الحسد في داخل النفس، وهذا الحسد، مرده إلى عدم القناعة بما رزق الله تعالى وأعطى، وإلى إهمال الإنسان لتربية نفسه، وبدل من أن يعمل ويصل إلى مراتب عُليا في الكمالات، تراه ينزعج من الآخرين ويتمنى لهم أسوء ممّا هو عليه.

هذه العناوين عالجها السيد محمد حسن فضل الله في كتابه (روض الصالحين)، كما عالج قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا العنوان من العناوين الأساسية التي يقوم عليها نشر الدعوة الإسلامية وصلاح المجتمع، ولو أن المجتمع إلتزم عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه من الإستهتار الواضح، ولخجل اصحاب المنكر من منكرهم، ولأخفوه عن عيون الناس، وهنا نلاحظ أن السيد فضل الله عالج هذا العنوان وتحدّث عن مراتبه الشرعية التي حدّدها الفقهاء.

كما عالج حقوق الناس، من حق الرحم والأقارب، حيث يترتب عليها آثار وضعية في دار الدنيا، قبل الوصول إلى يوم القيامة والعقاب عليها، والروايات مستفيضة في الحديث عن وجوب صلة الرحم، والإحسان إليهم والدعاء لهم بظهر الغيب، وأن يوصل إليهم حقوقهم المفروضة عليه.

كذلك حق الجوار، وأنّ للجار حقوق على الجار، والرسول الأعظم P أوصى بحق الجار وأكد عليه، وعلى كافة الحقوق المفروضة للناس.

وأفرد ــ رضوان الله عليه ــ عنواناً خاصاً بأخبار الملوك والزهاد والعباد، ولعلّه أراد من ذكر هذه الحوادث في هذا الكتاب أن تكون مادة يستفيد منها علماء الدين كشاهد في أحاديثهم ومواعظهم، وهي أيضاً مفيدة للقراء الذين يطالعون هذا الكتاب، وغالباً ما تؤثر القصة بالقارئ ويتعظ منها، وعلى سبيل المثال:

النبي سليمان Q عبرة للآخرين

فاعلم يا أخي أن الله تعالى قد منحه ملكاً عظيماً، حيث سخّر له ما في الكونين، فأمر سليمان فصنعوا له بساطاً من الأبريسم والذهب وكان يجلس عليه مع خاصته، وكان في مجلسه على البساط ستمائة ألف كرسي، ولسليمان Q سرير مرصّع في وسط الكراسي يجلس عليها العلماء والأنبياء، وسخّر الله له ريح الصبا غدوها شهر ورواحها شهر، وقد زاد الله في ملكه بأنه ما يتكلم أحد كلمة أينما كان إلا ألقتها الريح في أذنه حتى يسمعها، وملكه Q لا يوصف ولا يُحدّ بحصر، ومع هذا الملك كان لا يأكل ما مسّته النار، بل كان يعمل من سعف النخل والخوض زنبيلا، ويشتري بثمنه شعيراً، فيضعه بين صخرتين حتي يصير جريشاً، ويجعله

في الشمس حتى يجف فيأكله، فإذا جنّه الليل نزع ثياب الملك، ولبس ثياباً من ليف النخل، وغلّ يديه إلى عنقه، وقام باكياً إلى الصباح.

وعن الصادق Q كما في أنوار السيد: «أنّ سليمان بن داود Q قال ذات يوم لأصحابه: إن الله تبارك وتعالى قد وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي، سخّر لي الريح والإنس والجن والوحوش، وعلّمني منطق الطير، آتاني من كل شيء، ومع جميع ما أوتيت من الملك، ما تمّ لي سرور إلى الليل، وقد أحببت أن أدخل قصري في غد فأصعد إلى أعلاه، وأنظر إلى ممالكي، فلا تأذنوا لأحد بالدخول لئلا يرد ما ينغص عليّ يومي، فقالوا: نعم، فلما كان من الغد أخذ عصاه بيده، وصعد إلى أعلى موضع من قصره ووقف متكئاً على عصاه ينظر إلى ممالكه مسروراً بما أوتي، فرحاً بما أعطى، إذا نظر إلى شاب سن الوجه واللباس، قد خرج عليه من بعض زوايا قصره، فلما بصر به سليمان Q قال له: «من أدخلك إلى هذا القصر وقد أردت أن أخلو فيه اليوم، وبإذن من دخلت؟ قال له: أدخلني هذا القصر ربّه وبإذنه دخلت، فقال: ربّه أحق مني فمن أنت؟ قال: أنا ملك الموت قال: وفيم جئت؟ قال: جئت أقبض روحك. قال: امض لما أمرت به فهذا يوم سروري، وأبى الله تعالى أن يكون لي سرور دون لقائه، فقبض ملك الموت روحه وهو متكئ على عصاه، فبقي سليمان متكئاً على عصاه ما شاء الله، والناس ينظرون إليه وهم يعتقدون أنه حي، حتى بعث الله الأرضة فدبت في عصا سليمان، فلما أكلت جوفها انكسرت العصا، وخرّ سليمان من قصره على وجهه».

موعظة حسنة

دخل يزيد الرقاشي على عمر بن عبد العزيز فقال له: عظني، قال: يا أمير إعلم أنك لست أول خليفة تموت، فبكى عمر، فقال: زدني، فقال: ليس بينك وبين آدم إلّا أب ميت، فبكى، فقال: زدني، فقال: ليس بين الجنة والنار منزل، فسقط مغشياً عليه.

باع ملكه بشربة ماء

قال الرشيد لابن السمّاك عظني وبيده شربة من ماء، فقال: يا أمير لو حبست عنك هذه الشربة أكنت تشتريها بملكك؟ قال نعم، قال: أرأيت لو حبس عنك خروجها أكنت تفديها بملكك؟ قال: نعم، قال: فلا خير في ملك لا يسوى شربة ولا بولة.

كفى بالموت واعظاً

حكى الأصمعي: أن النعمان لما بنى قصر الخورنق وأشرف عليه يوماً وقد أعجبه ملكه وسعته ونفوذ أمره فقال لأصحابه: هل أوتي أحد مثل ما أوتيت؟ فقال له حكيم من حكماء أصحابه: هذا الذي أوتيت شيء لم يزل ولا يزل ولا يزول، أم شيء كان لمن كان قبلك زال عنه وصار إليك؟ قال: بلى كان لمن كان قبلي وزال عنه وصار إليّ، وسيزول عني، قال: أفسررت بشيء تذهب عنك لذته تبقى تبعاته، قال: فأين المهرب؟ قال: إما أن تقيم وتعمل بطاعة الله أو تلبس أمساحاً وتلحق بجبل تعبد ربّك فيه وتفرّ من الناس حتى يأتيك أجلك. قال: فإذا فعلت ذلك فما يكون لي؟ قال: حياة لا موت فيها، وشباب لا يهرم صاحبه، وصحة لا سقم معها، وملك جديد لا يبلى، قال: فأي خير فيما يفنى، والله لأطلبنّ عيشاً لا يزول أبداً، فانخلع من ملكه ولبس الأمساح وسار في الأرض وتبعه الحكيم، وجعلا يسيحان في الأرض يعبدان الله حتى ماتا.

الإسكندر Q والإتعاظ بالموت

في الأخبار أن الإسكندر Q اجتاز يوماً في عسكره على رجل جالس في مقبرة وبين يديه عظام رميمة، وجماجم بالية، وهو ينظر إليها، فقال له الإسكندر: ما تصنع في هذه العظام؟ فقال: إن هذه المقبرة قد دفن فيها جماعة من الفقراء وجماعة من الملوك، فبعثني الله سبحانه أن أعزل عظام الملوك عن عظام الفقراء، فأنا أنظر في هذه الجماجم والعظام، ولا أعرف هذا من هذا، فمضى الإسكندر عنه وقال: والله ما عنى غيري. وهذا هو الذي كان السبب في طلبه الموقع الذي صار فيه.

العقاب الجماعي

ورد عن أبي عبد الله Q أنه قال: «مرّ عيسى Q بقرية مات أهلها بأجمعهم وطيرها ودوابها، فقال: أما إنهم لم يموتوا إلا بسخط ولو ماتوا متفرقين لتدافنوا، فقال الحواريون: يا روح الله وكلمته، أدع الله أن يحييهم لنا فيخبرونا ما كانت أعمالهم حتى نتجنّبها، فدعا بأحيائهم ليسألهم، فقام واحد منهم فقال: ويحكم ما كانت أعمالكم؟ قال: عبادة الطاغوت، وحبّ الدنيا مع خوف قليل، وأمل بعيد، وغفلة في سهو، فقال: كيف كان حبكم للدنيا؟ فقال: كحب الصبي لأمه، إذا أقبلت علينا فرحنا وسررنا، وإذا أدبرت حزنّا، قال: كيف كانت عبادتكم للطاغوت؟ قال: الطاعة لأهل المعاصي، قال: كيف كانت عاقبة أمركم؟ قال: بتنا ليلة في عافية، وأصبحنا في الهاوية. قال: وما الهاوية؟ قال: سجين. قال: وما سجين؟ قال: جبال من جمر توقد علينا إلى يوم القيامة. قال: فما قلتم، وما قيل لكم، قال: قلنا رُدّنا إلى الدنيا فنزهد فيها، قيل لنا: كذبتم. قال: ويحك، لم لا يكلمني أحد غيرك من بينهم؟ قال: يا روح الله إنهم ملجمون بلجام من نار بأيدي ملائكة غلاظ شداد، وإني كنت فيهم، ولم أكن منهم، فلما نزل العذاب عمّني معهم، وأنا معلّق على شفير جهنم فلا أدري ما يكون إليه أمري. فالتفت عيسى Q إلى الحواريين فقال: يا أولياء الله، أكل الخبز اليابس والملح الجريش والنوم على المزابل خير كثير مع عافية الدنيا والآخرة.

الدنيا مزرعة الآخرة

قال في الأنوار: كان في زماننا رجل صالح، وكان في خدمة السلطان الهندرشاه، وكان له مداخل من الأموال في كل سنة تقرب من أربعمائة ألف دينار، وكان ينفقها في سبيل الله، فسمع السلطان بذلك، فطلبه يوماً وقال: يا فلان، ينبغي للإنسان أن يكون له حظ من المال، وأنا سمعت أنك لا تحب المال، فقال الرجل: أيها السلطان، والله إني لحريص مع حب المال، وما أحد من خواصك أحرص مني، وذلك أني أريد أن آخذ كل مالي معي، ولا أبقي منه شيئاً، والناس يريدون أن يبقوها بعدهم، فأي حريص أحرص مني؟ فقال: صدقت.

حُبّ الدنيا عقاب يصير صاحبه غافلاً عن الآخرة

في الكافي عن الباقر Q وملخصها أنه قال: كان سعد رجلاً فقيراً شديد الحاجة، ملازماً للنبي P في أوقات الصلاة كلها، لا يفقده في شيء منها، وكان رسول الله P يرق له وينظر إلى حاجته وغربته، فيقول: يا سعد، لو جاءني شيء لأعنتك، قال: فأبطأ ذلك على رسول الله P، وكان النبي P قد حزن على فقره، فنزل جبرئيل Q ومعه درهما، فقال: يا محمد، علم الله بحزنك على ضيق أحوال سعد، أتريد غناه؟ قال: نعم، فقال جبرائيل: خذ هذين الدرهمين وأعطه وأمره بالتجارة، فأخذهما النبي P فأعطاه الدرهمين وقال له اتجر بهما، فكان سعد لا يشتري بدرهم شيئاً إلا باعه بدرهمين وأربعة دراهم، فأقبلت عليه الدنيا، فكثر متاعه، فأخذ سعد دكاناً على باب مسجد واشتغل بالمعاملة فأعطاه الله بركة عظيمة ومالاً كثيراً، حتى استوعب أوقاته ولم يمكنه من شدة المعاملة والمشاغل حضور الصلاة مع النبي P، وكان إذا أقام بلال للصلاة يخرج P وسعد مشغول بالدنيا، ولم يتطهر ويتهيأ كما كان يفعل قبل أن يتشاغل بالدنيا، فكان يقول له النبي P: إذ ترى يا سعد قد شغلتك دنياك عن الصلاة، فيقول: ما أصنع؟ أضيع مالي؟ هذا رجل قد بعته فأريد أن أستوفي منه، وهذا رجل قد اشتريت منه، فأريد أن أوفيه. فحزن الرسول P عليه كما كان قد حزن على فقره، فنزل جبرئيل Q فقال: اطلع الله على حزنك لسعد في الحال، أي الحالتين تريد؟ فقال P: إنّ دنياه أذهبت آخرته، فقال: إنّ حبّ الدنيا عقاب يصير صاحبها غافلاً عن الآخرة، قل لسعد أن يردّ عليك الدرهمين، فإذا أخذتهما منه رجع إلى الحالة الأولى، فطلب النبي P منه الدرهمين، فقال: أعطيك مائتي درهم، فقال P: ما أريد غيرهما، فأعطاه إياهما، فرجع إلى ما كان عليه في الحالة الأولى.

وفاته:

صباح يوم الجمعة في السادس والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة ١٣٩٢هـ الموافق لـ ٣ تشرين الثاني ١٩٧٢م. وكان لرحيله فاجعة عند الناس والعلماء والأعيان، وأعلن وفاته عبر الإذاعة والتلفاز والصحف، وكان له تشييع مهيب، فحضر التشييع رئيس مجلس الوزراء وممثّل رئيس الجمهورية ورئيس المجلس النيابي كامل الأسعد - الذي قطع جلسة الثقة للحكومة - وعلماء لبنان وفي طليعتهم الإمام السيد موسى الصدر.. وانطلق الموكب إلى المطار حيث الطائرة الخاصة التابعة بطيران الشرق الأوسط، نقلت الجثمان الطاهر مع ٣٠ عالماً إلى العراق، حيث استقبلهم في مطار بغداد ممثل رئيس الجمهورية، وفي النجف الأشرف شُيِّع السيد فضل الله تشييع المراجع حيث تفاعل الناس وكان تشييعاً مهيباً(2).

وفي ذكرى الأسبوع، تحوّل الحفل التأبيني إلى مناسبة دينية ووطنية تجلّت فيها الأخوة في الله، بين الخطباء من جميع الطوائف.

ففي الساعة التاسعة من صباح يوم الأحد في ١٢ تشرين الثاني ١٩٧٢م، أقيم مهرجان خطابي كبير، في النادي الحسيني في (برج البراجنة)، حضره الألوف، من مختلف المناطق والمذاهب والفئات، يتقدمهم ممثل فخامة رئيس الجمهورية ــ آنذاك ــ معالي وزير الصحة الدكتور نزيه البزري، وسماحة الإمام السيد موسى الصدر رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، والشيخ محمد أبو شقرا شيخ عقل الطائفة الدرزية، والوزراء والنواب، ورجال السلك الديبلوماسي وحشد كبير من رجال الدين والعلماء والمشايخ، ورجال الإكليروس المسيحي. وافتتح الاحتفال بقراءة القرآن الكريم للقارئ الشيخ حسن بيضون، ثم قدم للحفل الشاعر الأستاذ إبراهيم بري، وقد تعاقب على الكلام، كل من: سماحة السيد موسى الصدر، فضيلة القاضي الشيخ طه الصابونجي (باسم سماحة مفتي الجمهورية)، النائب الأستاذ إدمون رزق (باسم رئيس المجلس النيابي)، الأستاذ نصري سلهب، الأستاذ جورج جرداق، الشاعر السيد محمد نجيب فضل الله (قصيدة) والدكتور عبد الرؤوف فضل الله (باسم آل الفقيد). وتلا الشيخ محمد نجيب زهر الدين فصلاً من السيرة الخالدة، مصرع أبي الشهداء الحسين بن علي  Q، منوهاً بتيمّن الفقيد الراحل بسيرة وجهاد السلف الصالح.

وقد ترك سماحة السيد ذرية صالحة: العلامة القاضي المرحوم السيد علي فضل الله والدكتور عبد الرؤوف والحاجة رؤوفة زوجة العلّامة السيد هاشم معروف الحسني، وأعقب السيد علي أيضاً ذرية صالحة ومنهم من أهل العلم الفاضل السيد عبد الكريم وسماحة السيد عبد الله آل فضل الله.


(1) القرآن الكريم، سورة الواقعة، آية ١٠ و١١ .

(2) أقفلت الأسواق في النجف، وصلى عليه آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي، وأعلن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الحداد، واعتذر الإمام السيد موسى الصدر عن استقبال المهنئين بعيد الفطر المبارك، واستمر تقبل التعازي في برج البراجنة سبع أيام.

أصابته الحُمّى وفقد شعوره

فكان يأتيه السيد شريف ويذكره بالصلاة

إنّه العلامة السيد حسن محمود الأمين.. كان من أعلام الطائفة، ولد في قرية (عيثرون) من جبل عامل سنة ١٢٩٩هـ، وكان والده العلامة السيد محمود الأمين يسكن فيها.

قرأ في جبل عامل على عدد من الفضلاء، ومنهم: أخوه السيد علي في (شقراء) مدّة ست سنوات، ثم غادر إلى النجف الأشرف سنة ١٣١٦هـ، وله من العمر سبع عشرة سنة، فقرأ على الأساطين الفقه والأصول، منهم: الشيخ علي بن الشيخ جعفر آل كاشف الغطاء، الشيخ كاظم الخراساني (صاحب الكفاية في الأصول)، السيد كاظم اليزدي (صاحب العروة الوثقى).

عاد إلى جبل عامل سنة ١٣٣٠هـ، فسكن (عيثرون)، ثم دعاه أهالي بلدة (خربة سلم) ليكون إماماً لهم، وبقي فيها حتى رحيله سنة ١٣٦٨هـ الموافق لـ ١٩٤٩م، تاركاً تراثاً بالفقه والأصول والأدب.

كان -رحمه الله- صديقاً للسيد شريف شرف الدين، وينقل الشيخ محمد جواد مغنية عن السيد حسن محمود الأمين حادثة يبيّن لنا فيها متانة الصداقة بين السيد حسن محمود الأمين والسيد شريف، فيقول: «حدثني المقدّس السيد حسن محمود الأمين، أنّه كان له أخوّة صافية مع السيد شريف شرف الدين، وحدث أنه أصيب ذات يوم (بالحُمّى) حيث فقد معها الشعور، ونسي حتى الصلاة، فكان يأتي إليه صديقه السيد شريف في أوقات الصلاة، ويجلس إلى جانبه ويقول له: إفعل كما أفعل، والسيد الأمين يتابعه بالصلاة».

ويُعلق الشيخ مغنية على هذه الحادثة، بالقول: «إنّ في هذه المثال صورة بارزة عن قداسة أولئك الصفوة الهداة وعن شعورهم بالواجب تجاه خالقهم وإخوانهم، فالمرض أسقط فريضة الصلاة عن السيد حسن، ولكن السيد شريف أبى عليه دينه أن لا يُذكّر أخاه بذكر الله في الأوقات التي كان قد اعتاد على ذكره فيها».

وأنا بتقديري، أنّ السيد شريف كان يعرف بسقوط الواجب عن صديقه السيد حسن، ولكن الصفاء الذي حازه، والمودة التي عاشها مع إخوانه كانت تُحتّم عليه أن يتعامل معهم، كما لو كان هو مكانهم، كما قال الإمام علي Q: «أحبب لغيرك ما تحبه لنفسك»، فهذه الروحية من المودة والأخوة لو عشناها نحن اليوم مع إخواننا لأنزل الله علينا البركات والرحمة، ولأصبحنا قدوة للمجتمع الذي لا يستقيم أمره من دون وجود القدوة وبالخصوص من أهل العلم.